هشاشة:

في تأملي الطويل لرحلتي مع القلق، والهلع، والخوف، والمشاعر التي طالما زارتني وغادرتني كل حياتي، كأي امرأة في سني، كأي إنسان ربما في سني، قرأتُ بعض الكتب حول جذور هذه المشاعر التي تنتفض لدينا بدون سابق إنذار، خوف بلا مخيفات، قلق بلا مقلقات، كآبة في عالم مليء بالمبهجات.. لم تفعل بنا أرواحنا هذا؟

من تلك النظريات نظرية تقول أن أدمغتنا وبنية أجسامنا قد تطوّرت وفقا لحياة قاسية مليئة بالتحديات والمغامرة والإثارة، لذلك فالسكون والركود الذي نعيشه في عصر الاستهلاكية لايناسب أدمغتنا ولا أجسامنا، ولذلك تظهر هذه طاقات على شكل أحلام مخيفة، على شكل نوبات هلع، ونوبات اكتئاب وعصابات أخرى. وهكذا يتضح لنا أن الحياة السهلة قد لاتكون بالضرورة حياة سهلة، بل قد لاتكون حياة متطوّرة إطلاقا مقارنة بالحياة العصيبة أو المليئة بالتحدّيات. فالإنسان تحت التهديد يطوّر مهارات للصمود والبقاء، وتظهر مهارات لديه لم يكن يحلم بأن يمتلكها، ولا توجد وسيلة لقص أظفار تلك المهارات مثل حياة وادعة بلا تحديات، بلا جوع ولا عطش ولا حيوانات مفترسة تهددنا . حتى وإن كانت هذه الحيوانات قد تحوّلت إلى شركات تبتلع أموالنا ، أو مديرين يمارسون علينا طقوس ساديتهم، أو شركاء حياة يتفننون في تدبير مقالب يومية لنا. المهم أن بقاءنا على قيد القلق هو مايجعلنا بطريقة أو أخرى من بني الإنسان، من الجنس العاقل الذي تعتبر مهاراته العقلية هي سبب صموده.

عندما انفجر الكورونا بلا سابق إنذار في سوق السمك في ووهان، تنبأت أدمغتنا بوصول الفيروس عاجلا أو آجلا إلى ديارنا، نعرف بالحدس أن وجودنا البشري وكثافاتنا السكانية وحركتنا المستمرة تجعلنا هشيما هشا يمكن حصاده بأضعف الكائنات، بكائن ليس حتى حيّا، ولكنه يمكنه أن يأكلنا كما تأكل النار بقايا الحصاد.

كل هذا الذي بنيناه ، كل هذا الكون الذي سبرنا غوره، كل هذه المباني كل هذا الأنفاق كل وسائل المواصلات، كل هذه المخترعات وكل هذه المليارات السبعة التي تجمعت على ظهر هذا الكوكب في 2020 وكل الاقتصادات الضخمة التي جعلت مراكز التسوّق لدينا تلمع بالرخام والسيراميك وتضوع بأفخم العطور وتعبر الأشياء فيها المحيطات والقارات متخطية حدود الزمن. كل هذه العظمة تبددت في بداية مارس 2020 عندما بدأت العدوى تتحول وباءً، ولاحقا عندما أعلن الوباء جائحة عالمية. المرض لم يزرنا بعد، ولم يدخل بيوتنا ونسأل الله أن لايدخلها، ولكن دخلنا الخوف، وأدركنا كما نفعل في كل مرة عندما نخاف هشاشتنا، وحجم وجودنا المهدد كل لحظة وكل ثانية. تماما كطفل جامح في فصل توبّخه معلّمة سمينة، فينقصع ويضمحل ويطلب السلامة.

هكذا نبدو الآن ، منقصعين مضمحلين، لم نعد نشكو الطفش، لم نعد نتحدّث عن الحرب، لم نعد نتبجح بأعراقنا وقبائلنا، لم نعد نحتار في قوائم طعام المطاعم، ولا نتحدّث عن الثقوب السوداء، ولا عن السفر عبر الزمن، ولا نطلب أكثر من السلامة. من يدري، ربما كانت هذه الجائحة عطيّة، منحة لأرواحنا التي أهلكها الملل والألم غير المبرر، ربما كانت صفعة قوية لللاوعينا المتمرّد الجامح دائما، ليعود أدراجه داخل أرشيفات أدمغتنا وينام طويلا، ويترك الوعي الأعلى يتصرّف كما ينبغي مع الأزمة.

كل واحد منا فيه ندبة ما، صغيرة أو كبيرة، المهم أننا كلنا ، بلا استثناء ، مليئون بالندوب، لذلك لامعنى لأن أصف شخصا ما بالنفسية، أو أن أعتقد أن عائلة ما تبدو مثالية، أو أن شخصا ما متخصصا سينشأ على يديه بالضرورة عائلة من السعداء. لأنه لا أحد فينا تعيس أو سعيد إلا بمقدار ماتسمح به لحظته وساعته ويومه.

نحن كائنات هشة بشكل كبير، وكل واحد من مشاعرنا يدفعنا بطريقة أو بأخرى لاحتمالية انهيار أو تفتت قريبة أو كبيرة. حتى الأمل، وهو أجمل مشاعرنا، يجعلنا في حالة من الهشاشة المفرطة حينما نندفع بسببه لعمل ما، حينما نمتلئ بسببه بالأحلام التي نعرف أنها لن تتحقق. على أن هذه الهشاشة، والنسيان، والأمل، والفضول، والدهشة التي لاتنقطع، كل هذه المشاعر الساذجة تظل هي أكثر مايميّزنا، تظل هي عنوان إنسانيتنا، تظل هي ميزة جنسنا وسبب خلوده.

أضف تعليق